القائمة الرئيسية

مشاركة
محطات التشافي و العلاج النفسي
‏18 سبتمبر، 2021
مشاركة

رحلة العلاج النفسي ليست بالرحلة المُمتعة خاصة في بداياتها ، و ليست بالرحلة القصيرة أيضا.

قد لا تُكلفك مادياً فحسب، و إنما تُكلفك جُهد عاطفي و فكري و اجتماعي و رُبما حتى روحي.

الدافع للعلاج أو الإرشاد النفسي يختلف من شخص لآخر … لكن محطاتهُ بالغالب تتشابه مع الجميع.

لكن قبل البدء بذكر هذه المحطات وشرحها، من المٌهم أن نُدرك ما الهدف من معرفة هذه

المحطات

أولا.. وعينا عن هذه الرحلة بمحطاتها يُعطينا النفس الطويل والصبر الجميل سواء كنا نحن من نخوض هذه الرحلة أو أحد أحبابنا.

ثانيا .. أن نُدرك تبعات كل مرحلة وأنك قد تواجه تحديات في رحلة العلاج النفسي قد لا تعني أنها دائمة.. وإنما تنتمي لمحطة معينة و حين تنتقل للمحطة الأخرى في العلاج ستتلاشى.

أخيرا..لنُعزز من ثقافة العافية النفسية سواء برحلة العلاج أو الارشاد النفسي.. أو حتى بأبسط الخطوات نحو عافية نفسية ترفع من جودة حياتنا الشخصية ، الأسرية، و الاجتماعية.

.

.

المحطة الأولى : ما قبل البصيرة 

لا يبدئ الجميع من هذه المحطة ، لكن بالغالب من يبدئ بها لم يسعى لها.

 ((أنا ما عندي مشكلة)) و لسان حال الشخص في هذه المرحلة العلاجية

هو / هي أُجبر على الدخول في رحلة التشافي و العلاج النفسي .. إما بالإكراه بطلب من المحكمة مثلا أو تحت تهديد الطرد من الوظيفة.

أو أٌجبر بسلطة الحب والقوة الناعمة الاجتماعية، مثلا .. تطلب الأم من ولدها أو ابنتها أن تزور المعالج النفسي بسبب خلافات أو تحديات يعيشها الابن والابنة لكن لا يرى داعٍ للتدخل العلاجي.

أو زوجة تشترط على زوجها الخائن أن يبدئ في تلقي الارشاد النفسي بعد خيانته لإنقاذ زواجهم، لكنه يشعر أنها بالغت و هو ليس بحاجة لتلقي جلسات الارشاد النفسي أو الزواجي.

وغيرها من الأمثلة التي كثيرا ما نراها في العيادة.

حين يأتي الشخص مٌكره، نسمعُه يكرر عبارات تعكس أن من حوله لا يفهمهُ!! أو مُبالغ!! أو أن سبب محنتهُ أهلهُ أو ظروف العمل وغيرها من العوامل التي تتحمل مشكلته بشكل مُباشر.

لذا قد يُقاوم مُكاشفة ذاته وفحصها بصدق.

لا تعني هذه المحطة أنها ستُوقف العلاج النفسي أو أن لا فائدة من حضور الجلسات الاستشارية. بالعكس رأيت الكثير ممن أتى مٌكره ومن ثم ارتفعت بصيرته ليحرص هو بنفسه على القدوم للجلسات وتحسين حياته.

.

.

المحطة الثانية : بداية البصيرة 

الأغلب يبدئ رحلة التشافي أو الارشاد النفسي بهذه المحطة حين يُدرك أن هناك شيء ما بعواطفه أو أفكاره أو علاقاته ليس على ما يُرام. وأن الحياة لا يعيشها بالجودة التي يتمناها أو يطمح لها.

أو أن ذكريات الماضي المؤلمة أثقلته، أن أحداث معينة يمر بها ولا يستطيع التعايش معها.

حينها يطلب المُساعدة المُتخصصة. هذه الخطوة كثير يعتقد أنهُ بمجرد أخذها مشاكلهُ و تحدياتهُ ستُحل، و الصعاب في حياته ستتذلل. لكنها فقط البداية !! بداية توجيه البوصلة نحو الاتجاه الصحيح. لكن ربما ليست بالاتجاه الدقيق.

مثلا، يدخل الكثير هذه المحطة و يعتقد أنه بمجرد إدراكه أن علاقاتهُ الاجتماعية مثلا ليست مُستقرة .. فهو بذلك وضع يده على المشكلة فقط ، و تبقى عليه إيجاد الحل و تطبيقه! لكن في الواقع قد تكون علاقاتهُ الغير مستقرة هي المشكلة الظاهرة على السطح، لكن أعماق المشكلة قد تكون صدمات أو مشاعر مُهملة في الطفولة .. أو اكتئاب مٌهمل علاجيا من سنوات .. أو قلق اجتماعي لم تُكشف ملامحه … و غيرها من الجذور و الأبعاد التي بالعادة لا تظهر بوضوح في هذه المحطة.

لذلك إن كنت أنت أو أحد أحبابك في هذه المحطة من رحلة التشافي .. لا تتوقع الكثير من التغيير على الصعيد السلوكي أو الاجتماعي، إنما هي مرحلة ومحطة بداية الفحص والتنقيب عن جذور المشكلة وفهم أبعادها وأثارها.

.

.

المحطة الثالثة : التهيئة و الاستعداد

هذه المرحلة من وجه نظري كمعالج نفسي هي من أهم مراحل التشافي، و التي تُعطي للرحلة العلاجية بالكامل قوة الاستمرارية. للأسف كثير من المُعالجين النفسيين يُهملها ولا يُعطيها الوقت الكافي.

هي مرحلة يفحص فيها الشخص مواطن قوته التي سيستخدمها في رحلة التشافي، و أيضا معرفة مواطن الضعف . حتى لا يتفاجأ بمشاعر مُجهدة أو يصل لمرحلة في رحلة التشافي و العلاج النفسي و يتوقف ، و السبب اصطدامه في محدودياتهُ و نقاط ضعفه التي لم يدركها منذ أول الرحلة.

عدم إعطاء هذه المحطة حقها في الوقت و الجهد، و التسرع في البدء في المرحلة التالية و التي فيها العمل تجاه التغيير قد يُجهد الشخص أو يبدئ في التغيير و هو مُتعب.

أُشبه عدم قضاء الوقت الكافي في هذه المرحلة كمن يرغب بالسفر .. دون معرفة متطلبات واحتياجات المكان الذي ينوي السفر له؟ و كم يحتاج من الأمتعة و التجهيزات التي تجعل من رحلتهُ ميسرة و لا تتوقف! ؟ لذا من المحتمل ألا يصل لوجهتهُ رغم رغبته الصادقة في السفر. أو قد يأخذ وقت و جهد أكثر من اللازم، و السبب عدم التهيئة.

إن انتهيت من محطة بداية البصيرة.. لا تنطلق نحو مرحلة التغيير قبل المرور بهذه المرحلة (التهيئة والاستعداد) الكافي لرحلة التشافي.

.

.

المحطة الرابعة : العمل الجاد

في هذه المرحلة يبدئ التغيير الحقيقي.. بعد وضع خطة ومسار واضح و أهداف محددة للوصول لها.

و التغيير الحقيقي لابد أن يحدث في كل الجوانب: العاطفية، الفكرية ، الاجتماعية ،، و السلوكية.

ربما هذه المحطة تكون الأطول لدى الكثيرين.. ففيها أيضا ترتفع البصيرة أكثر، ويستطيع الشخص من خلال التزامهُ بها أن يبني مهارة تحليل ما جرى ويجري له باتزان.

أكثر ما يحتاجه الشخص في هذه المحطة أمران هامان جداً:

١إلزام عالي تجاه التغيير،

للأسف كثير من الناس يأخذ خطوة أو خطوتين تجاه التغيير ثم يقول لم يتحسن شيء بحياتي. في الحقيقة عملية التشافي و العلاج النفسي ليست برمجة تُحدث تغيراً سريعاً .. إنما جُهد يتطلب شهور من الثبات و الالتزام

.

٢علاقات صحية داعمة في هذه المحطة،

لأنها مرحلة الخروج من منطقة الراحة، و لأنها مرحلة مواجه ذكريات و آلام الماضي،  و رؤية الجانب المكسور فينا عن قرب. فهي مرحلة مؤلمة و يشوبها كثير من التوتر و المشاعر المزعجة .. لكنها جزء من هذه المحطة .

لكن تطمن لن تستمر للأبد.

ألاحظ أيضا من خلال عملي في الارشاد والعلاج النفسي أن البعض يدخل هذه المحطة و من ثم لا يضع كامل الجهد المطلوب و الالتزام العالي، فللأسف تتحول هذه المحطة ((لصك غفران)) يُقدمه لنفسه أو لمن حثهُ على أخذ هذه الخطوة أو من يتأذى بمشاكله التي دفعته للعلاج العالي.

فمثلا.. أم مُجهدة من ممارسه دور الأمومة وتعاني من ذكريات مُثقلة من ماضيها. لكن حين تبدئ في هذه المحطة تُدرك أن هناك الكثير من العمل الجاد و  المستمر .. فتُقرر أن تضع ((بعض)) الجهد حتى توهم لذاتها أو للآخرين انها تعمل لحل المشكلة . لكنها في الواقع تستخدم جلسات العلاج النفسي لتخدير المشكلة لا مواجهتها.

لذا الصبر الجميل و الالتزام العالي يجعل نتيجة هذه المرحلة مُرضية و مُثمرة بعون الله.

.

.

المحطة الخامسة : الحفاظ على التغيير.

بعد تحقيق قدر جيد و مُرضي من التغيير و تحقيق الأهداف العلاجية ، هناك محطة لا تقل أهمية عن محطة العمل الجاد، و هي المحافظة على هذا التغيير و الاستمرار فيه. من الجميل صناعة تغيير في مشاعرنا و أفكارنا و حياتنا الاجتماعية و لكن الأجمل المحافظة و الاستمرار عليه. قد تبدو هذه المرحلة هادئة و قطف لثمار العمل المجهد في المرحلة السابقة.

، لكن حتى هذه المرحلة قد يتخللها مفاجئات عاطفية أو اجتماعية أو حتى فكرية لم تظهر خلال المحطة السابقة

أو قد يتخللها لحظات ضعف. أو قد يُحاربك البعض بسبب التغيرات التي صنعتها أو للخطوات التي قطعتها في رحلتك .. و قد يُمارس عليك ابتزاز عاطفي للعودة للوراء لأنه هناك !! أو تغييرك يُشكل له تهديد.

لكن نصيحتي لك .. قدّر و ثمّن كل خطوة تغيير تصنعها .. كل بصيرة تجمعها بداخلك .. كل قُرب بشجاعة من ألم و ضعف بداخلك

لن نصل للكمال خلال هذه الرحلة .. لكننا نسعى للتوازن و إدارة آلامنا برحمة و حكمة.

.

.

المحطة السادسة: الانتكاسة

هي بالغالب ليست مرحلة أو محطة بذاتها و لكنها أحد التحديات التي تواجه أي انسان في رحلتهُ للتعافي النفسي. فمهما كانت قوته في الالتزام والاستمرارية بالخطة العلاجية، و مهما يملك من بصيرة و استعداد، إلا أن لكل جواد كبوة.

الانتكاسة قد تكون لحظات أو أيام ،، أو حتى مواقف يخذل فيها الشخص مشاعره و أفكاره و ربما تصرفاته.

لكن أحذر من أن تدع الانتكاسة تتمكن منك .. لأنها قد تعود بك لمحطات في أول الطريق أو قد تُحيد بك من الطريق أصلا.

نصيحتي حاول قدر المستطاع أن تتعرف جيدا على المثيرات التي قد تكون سبب في ضعفك و من ثم انتكاستك.

و إن حدث و انتكست .. أجمع شتات نفسك و تذكر ما قطعته من شوط جيد و أكمله، لأنك تستحق دائما الأفضل.

.

.

المحطة السابعة : الخروج 

هي المحطة الأخيرة و التي ينظر فيها الشخص للوراء و يتأمل التغير الكبير أو العميق الذي قام به.  مرحلة يُقارن الشخص بوضوح نفسه في أوائل رحلة التشافي و الآن. و امتنانه لكل التضحيات و الجهود و لحظات الضعف التي مر بها خلال هذه الرحلة.

و يبقى السؤال .. هل يعني أن الشخص في هذه المرحلة لن يحتاج الى العلاج النفسي مرة أخرى ؟ أو لن يعود لأحد المحطات السابقة ؟

الإجابة .. لا

حياتنا دائما مليئة بالتحديات و المفاجأت و التي قد تضطرنا لبدء رحلة علاج أخرى.

وهذا لا يعني ضُعفنا، إنما العافية النفسية كالعافية الجسدية تمر من بين ضعفٍ و قوة.

.

.

.

ختاماً، يبقى سعي الانسان نحو التعافي النفسي و التغيير العاطفي و الفكري و حتى الاجتماعي جُهد يُقّدر و تُرفع له قبة الاحترام. لأن العمل على رفع جودة البناء النفسي لا يعود بالفائدة على الشخص نفسه فحسب! إنما أيضا يعود بالفائدة الكبيرة على الاسرة و المجتمع و الأمة. مهما كانت معاناتك بداخل أعماقك أو حتى بداخل أسوار بيتك. تأكدت أن المجتمع يشعر بها إما بغيابك الفعّال فيه أو بضعف شعور السلام الذي قد نشعر به مع من حولنا دون أن نتحدث.

‎.

التشافي النفسي رحلة ليست مفروشة بالورد و ليست طريقاً ملكياً على البساط الأحمر.

.. قد لا تتلقى دعم و ترحيب أقرب الناس لك في هذه الرحلة. و رُبما تُحارب أيضا فيه.  قد لا تجد فيه أحد

لكن تذكر أن النجاح الحقيقي ليس بالوصول للمحطة الأخيرة إنما بكل خطوة صادقة متزنة تخطوها.

.

.

أسأل الله لكم ولي و للإنسانية عافية البدن و الروح.